الهامش متنا
يعرض الكاتب للتغيّرات التي حلّت على المنطقة بسيطرة الإسلاميين عليها وهو ما تبدّى في تغيير ديموغرافيتها كما جاء على لسان خريشة: فوجئت بأهالي بين السّرايات يكتبون عبارات دينيّة متوعدة على لافتات أسماء الشوارع، تحذيرية وعبارات تحثّ على التمسّك بالعبادة «الحجاب عفة وطهارة»، ثمّ ما صاحبها من تغيير للزي فهجر أصحاب المكتبات «البنطلون والقميص إلى الجلابيب البيضاء»، وهو ما انتهى بها لأن تكون ظهيرا للجماعات الإسلامية في منطقة كرداسة، فآل بالأحداث التي وصلت ذروتها في فض اعتصام النهضة إلى ما آلت إليه.
يبدأ الكاتب روايته بأحمد خريشة وينتهي به أيضا بعد فضّ اعتصامي رابعة والنهضة ورفضه السّفر إلى الخارج وعودته من المطار، هو صاحب دي جي في المنطقة، يؤسّس به لغناء المهرجانات الذي انتشر في الآونة الأخيرة، ثمّ تحوّل إلى لعبة السياسة التي جرفته وأحرقته بنارها سريعا وفقد كلّ شيء، حتى شخصيته التي كان يهابها الجميع في المنطقة والمناطق المجاورة باعتباره أشهر دي جي، ضاعت. تبدأ الأحداث به لكنها تفارقه إلي شخصيات تتولّد تباعا وتتشابك مصائرها بعلاقات يجمعها لقاء المكان الأوّل في الفرح، فتأتي شفق مع زوجها أثناء فرح ابن شكري المحامي إلى المنطقة حاملة ما لديها من وثائق تثبت ملكيتها لـ«عزبة الوقف» التي ورثها جدها من الخديوي، لتدخلنا في علاقة بين الأقباط والمسلمين. يفتح الكاتب عبر وعي سردي وإلمام بتفاصيل الوقائع، الملفات الشائكة التي أخمدها البابا السّابق، ليظهر لنا لعبة الدين والسّياسة، وكيف أن لا لقاء في مسارهما، وإذا التقيا احترق أحدهما.
الرواية تروم عبر شخصيتي الأنبا وزهران في اعترافاتهما إلى تفكيك الخطاب الديني المتشدد، الكنسي والإسلامي
تروم الرواية عبر شخصيتيّ الأنبا (المجهول الاسم) وزهران في اعترافاتهما إلى تفكيك الخطاب الدينيّ المتشدّد، الكنسيّ والإسلاميّ على حدّ سواء، فالأنبا يدخل في مونولوجات مع نفسه يقدّم من خلالها انتقادات لأوضاع الكنيسة وخطاب أعلى ممثّل لهيئة الكرسي البابوي، ولم تقتصر الانتقادات على تعنّت البابا في قضايا مصيرية مثل الطلاق، وإنما أيضا موقفه السّلبي من المشاكل التي أحدثت صداما حقيقيّا بين المسلمين والمسيحيين، وكان آخرها تفريط البابا الجديد في دماء المسيحيين في أحداث ماسبيرو. واللافت أن ميدان التحرير كان الخلاص للتحرّر من قبضة البابا وجبروته مثلما كان فرصة للخلاص من دكتاتورية مبارك.
ومثلما تطهّر الأنبا باعترافاته تطهّر زهران أيضا باعترافاته مظهرا كيف أنّ رجال الدين استغلوا فقر الشّباب وجعلوهم في مرمى النيران، فتصبح الاعترافات التي جاءت على لسان زهران هي الموازي لاعترافات الأنبا في نقد الخطاب الإسلاميّ المتشدّد، وفضح ألاعيب الشيوخ، وهذه الانتقادات تبرز أهميتها بأنها تأتي من الداخل في الحالتين وعن تجارب معيشة، وهو يمثّل وثيقة مهمّة في معرفة كيفيّة تفكير هذه الجماعات والتي قادت إلى التطرّف في الحالتين.
ثنائيات وانتقادات
تنحو بنية الرّواية الظاهرية إلى تسجيل فن المهرجانات الذي ظهر في الآونة الأخيرة، إلا أن بنيتها العميقة تضرب بهذا الاتجاه لتكون رواية عن الثورة، بل تقدّم الأسباب التي آلت إليها، والأصدق هي رواية عن مهمّشي الثوّرة أو بمعنى أدق عن وقود الثورة وحطبها، هؤلاء الذين شاركوا في الثورة فداستهم عجلتها.
|
|
لعبة الدين والسياسة حيث إذا التقيا يحترق أحدهما |
| |
لذا يميل السّرد في كثير من جوانبه إلى أن يكون سردا، حيث سرد الرّاوة البوليفونيون الأحداث الواقعية التي أعقبت الثورة، وفي بعضها توثيقيّا، حيث يقدّم الرّواة أيضا معلومات موثّقة خاصّة، مثلما جاء على لسان الدكتور الألماني شاندور أثناء بحثه في التاريخ، أو ما جاء على لسان عزيز عن الأقباط والأحداث التي تعرّضوا لها خاصّة في الكشح ثمّ أحداث كنيسة القديسين وأحداث ماسبيرو الأخيرة. لكن ثمّة هيمنة على سرد غنائي عبر مونولوجات متعدّدة من معظم الشخصيات، هي أشبه باعترافات.
لا يبقى الزمن أسيرا لأحداث الحكاية التي تشغل أربع سنوات أو أكثر بقليل، وإنما ينفك عنها إلى أزمنة قديمة قد تعود في كثير منها إلى تأسيس الإسلام السّياسيّ كما في حكاية حمزة أبوأنور الذي يذهب وهو يسرد حكايته إلى زمن الخلافة والغزوات التي قام بها أبناء محمد علي، وتهديدهم للسلطان العالي في قصره، ومنها ما يعود إلى زمن أحدث نسبيا، حيث السّادات وضرب الشيوعيين بالإسلاميين، ومنها ما يعود إلى وقتنا الرّاهن. ومع طبيعة الزمن التي تبدو استرجاعيّة، إلا أن هذا لا يمنع أن ثمّة أزمنة يمرّرها الكاتب، أهمها هو الزمن الاستباقي حيث دائما يذكر أنّ عزيزا سيقترف جريمة قتل، وبالمثل عندما يرصد الأنبا أحداث الثورة وغيرها.
التعدّد هو سمة غالبة على النّصّ سواء على مستوى الشّخصيات، التي تأسّست بنيتها على لعبة الثنائيات: قبطي/ مسلم، مثقف/ مهمّش، بلطجي/ ثوريّ، لكن في الحقيقة المؤلف لا يأخذ بهذه الثنائيات ليظهر التعارض كما هو معروف وإنما كحيلة يظهر من خلالها توحّد الرؤية، فمع هذه البنية التعارضية لتركيبة الشخصيات إلا أنّها جميعها جاءت لتقدّم صورة واحدة ومتكاملة من مختلف الزوايا والرؤى والأيديولوجيات، بمثابة الصّورة الصّحيحة، أو تكاد، للثوّرة التي سلبت وضاعت، وتفرّقت دماؤها فوحّد مأساتها على الجميع. كما لا ترتبط الشخصيات والتي تتشابك مع بعضها البعض عن طريق المكان الذي جمّعهم فحسب أو حتى عن طريق حكاية بيع عزبة الوقف، وإنما الجامع بين هذه الشخصيات المختلفة أيديولوجيا ومكانيا (مصر/ ألمانيا/ كندا)، سوى القهر الذي وقع على جميع الشخصيات مع اختلاف طبيعة القهر والقاهر معا.
وأيضا التعدّد على مستوى اللغة، فثمّة تداخل في الشريط اللغوي بين اللّغة الفصيحة التي كانت معبّرة وبعيدة عن التكلّف والأهمّ أنّها سليمة، مع اللّغة العامية التي جاءت كأداة تعبيرية لفئة الهامش، ورغم فجاجتها في بعض المواقف إلا أنّها كانت دالة على واقع جديد، بدأت مفرداته تتشكّل..
Comments
Post a Comment