خنادق الخنادق

عن الكتابة وخنادق العذراوات وأشياء أخري


هناك دائما خمسة أسئلة أعتقد أنها فاصلة جيدة، أو نقطة فى نهاية سطر، يجب أن أضعها قبل أن أبدأ مراجعة الفكرة التي سأعمل عليها، وكيفية تنفيذها، أنها أسئلة، لم أسألها لنفسى، منذ 16 عاما، منذ بدأت الكتابة لأول مرة، عام 1997، ولكنني سألتها لنفسي بعد الانتهاء من روايتي خنادق العذروات، منذ بدأت الكتابة في عامى الجامعى الأول، وقتها سألت نفسى هذه الأسئلة، لأننى دخلت الجامعة تائها، ولم أحدد بعد طريقى فعلا فى الحياة، كنت وقتها فى دوامة مفرغة، شاب غض، أنهكت ذهنه الثانوية العامة الجديدة، وأرهقته، بعدما أدخلته فى دوامة مفرغة، من الدروس الخصوصية، وغيرها، من الموجات، التى تتلقف الشباب أثناء مرحلة المراهقة الصخبة، كان من الطبيعى أن أدخل الجامعة لأول مرة بذهن خاو، ذهن عاجز حقا عن تشكيل شخصيته، فى هذه الأثناء، برزت الكتابة، كخطاف، كهلب سفينة نجاة، أو كقارب فى بحر متلاطم، كانت هذه الألفاظ التى استخدمها فى هذه الأثناء، وتذكرتها الآن، بينما أكتب هذه الكلمات، استعدادا للرد على الأسئلة الخمسة، التى تقارب للمصادفة، نفس الأسئلة الخمسة التى يجب أن يجيب عنها الصحفى، فى أى خبر يكتبه، وهى "متى وقع الخبر، وكيف وقع، ولماذا وقع" وأين وقع" ومن ؟
إذن فالأسئلة الخمسة موجودة فى المجالين، الصحفى، والأدبى، طالما هناك كتابة، ستظل دائما هناك خمسة أسئلة، أنا أخترت أن أبدأ من هذه الحالة، بالسؤال  لماذا تكتب، ثم سأعود للسؤال الأول، كيف تكتب عامة؟ ويليه السؤال، ما الذي انتظره من هذه الرواية. أى تأثير تريده لهذا العمل على القارئ؟



لماذا تكتب؟
من العجيب أننى لم أسأل نفسى هذا السؤال، على الرغم أننى لم أتوقف عن الكتابة منذ 16 عاما، بدأت بكتابة أول قصة قصيرة، عام 1997، بعد دخولى الجامعة بشهور، وقتها تعرفت على جماعة أدبية فى جامعة القاهرة، لا أتذكر الآن أى شئ عن هذه الجماعة، لكن أغلبنا كان مهتم بالشعر، وقليل جدا كان مهتم بالقصة، كتبت أول قصيدة شعرية، فى إحدى الزميلات آنذاك، لكنى سرعان ما اكتشفت صعوبة الشعر،لضرورة تعلم "البحور" والتعمق فى دراستها، وتدقيق الأبيات، ووزنها، كأن تتأكد، أن ما تكتبه من بحر المتدارك، أو على وزن "مفاعلة مفاعلة فعول"، كان الأمر معقدا، وذهنى كان مشتتا، لكننى كنت بحاجة للكتابة، أو لهذا العالم السحرى، العالم الذى تستطيع أن تصنعه بواسطة الحكايات، لأن عالمنا الحقيقى صاخب، مزعج، لا يهدأ، ثائر دائما، هناك حركة دائمة، لا تتوقف، مثل قطار، أو صاروخ، أو حافلة ركاب، تتجاهل المحطات، من الغريب أن الكتابة كانت بالنسبة لى عالمى الشافى، من هذا الصخب المستمر، لا أستطيع أن أصف لك حبى لعالم الكتابة، سوى أنها عوضتنى عن عجز دائم، كنت أشعر به حيال الحياة نفسها، عجز عن مواكبتها، عن مصارعتها، عن هزيمتها، كانت الحياة بالنسبة غول، وحش عملاق، كنت استطيع جرحه، أو هزيمته، فى معاركى اليومية مع الورق، انطلقت أكتب كثيرا، كانت أيامى فى الكلية، أخصب أيام الكتابة، وأعتقد أنها أفضل فترة، أنتجت فيها قصصا قصيرة، لكننى وقتها لم أكن مرتاحا لها، لم أنتج مرة نصا، وشعرت تجاهه بأى ارتياح، دائما قلقا، مرتابا فيما أكتبه، فى البداية ظننت أن هذه حالة الكتاب المبتدئين، لكن هذا الشعور ظل يلازمنى، حتى بعد انتهائى من كتابى الرابع، "خنادق العذراوات" أننى انتهيت، لكننى أشعر أننى لم أنته، لهذا أكتب، وبهذه الطريقة استمررت فى الكتابة طوال 16 عاما، وأظن أننى سأستمر إلى أن يشاء الله، لأننى لا أرتاح لما أكتبه، فأواصل الكتابة، هناك جوع داخلى للكتابة، يصف "أورهان باموق" هذا الجوع، بأنه ليس للأدب، إنما لإبداع أحلام جميلة، عن الناس، وعن الأماكن، والأشخاص، الكتابة عند "باموق" هى علاج، وهى بالنسبة لى نفس الشئ، هى خير سلاح، فى مواجهة هذا الوحش، الغول، الحياة، التى تصارعنى، وأجد نفسى مضطرا دائما لمصارعتها، أنا وهى فقط فى الحلبة، فى هذه اللحظة، تكون الكتابة، هى أداة الدهشة، عصا الدهشة السحرية، القادرة على تشتيت أنتباه الوحش، وإثارته، وتوجيه نظراته عنى، وربما السماح لى على الأقل بتحقيق انتصارات صغيرة، تعيننى على النجاة، أكثر وأكثر، وتعطينى أوقاتا، وحيوات زائفة، مع هذه الحياة، الغول، لهذا أكتب، لم أحقق أبدا سعادة مما أكتبه، لم أسعد أبدا بما أكتبه، أظل مرتابا، قلقا، فأستمر فى الكتابة، كأننى أبحث عن عالم متماسك، غير عالم الغول، غير عالم الحياة، الوحش، أشعر بالسعادة والراحة مع كتب آخرين، أو مع أفلام سينمائية، وعلى الرغم أننى حينما أجلس إلى مائدتى، محاطا بهذه الأشياء الممتعة، وأبدأ فى الكتابة، أستمتع قليلا، لأننى فى هذه اللحظة أنسى لحظات الارتياب، والخوف والقلق من الغول، استرسل فى رحلات خيالية، أقرب إلى رحلات علاء الدين، على البساط السحرى، أستمتع فقط بينما أكتب، لكن استمتاعى سرعان ما يزول، حينما أنتهى من الكتابة، لذا تكون أسوأ أيامى، تلك التى لم أكتب فيها على الإطلاق، تكون هى أضجر أيامى، أشعر وقتها أننى لم ألتق حبيبتى، أو لم أذهب إلى الملاهى، أو لم أسبح فى البحر، أو لم أعد إلى لعبى القديمة، عندما أكتب، أكون كل هذا ، أكون الحبيب الذى يذهب إلى حبيبته فى لهفة، وجزل، أو الطفل، الذى يداعب سطح لعبته الجديدة، متلهفا لسماع أجراسها، أو ذاك الذى يصطحبه أباه فى أجازة نهاية الأسبوع إلى الملاهى، أو كل صيف إلى البحر، أكون هؤلاء جميعا، حينما أجلس إلى اللاب توب، وأخترع الشخصيات، أجدل شعرها، ألبسها ملابسها، أنتقى علامات مميزة فى شخصياتها، أرسمها، أحفظ ابتساماتها، وطرق نطقها للكلمات، لا تتخيل كيف تكون سعادتى، حينما أنهض أخيرا، بعد أربع ساعات، أو خمس، مخلفا خلفى عالما كاملا، يموج داخله، بشخصيات، وأوجاع، وأحزان وأفراح، وقصص، وحوارات، وتدبير خبيث، وآخر طيب، فى النهاية أكون سعيدا، وقلقا فى آن، مرتابا، ومبتهجا، محملا بطاقة هائلة، من الحيوية، والسعادة، واليقين، والشك، والحذر، والوساوس، عوالم أخرى يموج بها داخلى، كأبسط رد فعل، لهذا العالم الذى كتبته للتو على الورق.
كيف تكتب عامة؟
لم تكن هناك قاعدة أبدا، يقول برنارد شو، أن كلا منا يكتب عما ينقصه، أحدهم يكتب عن المال، وآخرون يكتبون عن الكرامة، أما ماركيز، فجاءه كاتب شاب، وقال له أنه يستطيع أن يكتب كتابا كل عام، لأنه فى البدايات، أما ماركيز، فلا يستطيع، لأنه كاتب كبير، آخرون يستطيعون أن يجدوا أفكار رواياتهم العظيمة، بينما يكتبون مشروعات آخرى غيرها، كأن تكون منغمسا فى رواية، وتكتب حتى نصفها، ثم تبرز رواية أخرى أجمل منها، تجبرك على ترك الأولى، والالتفاف إلى الجديدة، فتبدأ من جديد، أحيانا أشعر أننى مثل ذلك النحات الذى لا أتذكر اسمه الآن، بينما أكتب لك إجابة السؤال الثانى، قال هذا النحات، أن تماثيلنا موجودة فى الصخر، لكنها بحاجة لمعول جيد، لكى يستطيع التنقيب عنها، هكذا أعمل، أشعر أن الروايات التى أكتبها، هى موجودة فى مكان ما من الصفحات، داخل شاشة "اللاب توب" أو على الأوراق ناصعة البياض، فى البداية كنت أجلس إلى مائدتى، وأكتب كل يوم صفحة، ثم أقرأها فى الصباح، قبل الذهاب إلى العمل، أو إلى الكلية، ولم تزل أدراج مكتبى تمتلئ بهذه الأوراق، هناك روايات رفضت تنقيبى المستمر عنها، أبت، واستعصت، رفضت أن أمد أصابعى لها، وأستخرج أسرارها، أحيانا أكتب فصلا، أو فصلين، أو ثلاث فصول، ثم أتوقف، فجأة تتوه الفكرة، تبتعد شخصياتها، مهما حاولت حصارها، فى ملف خاص، أقوم فيه بتخصيص صفحة أو صفحتين لكل شخصية، أكتب فيهما أبرز معالم هذه الشخصية، ومزاجها، ملابسها، وطريقة نومها، وأكلها، وشربها، حياتها، دائرة المعارف المحيطة بها، هذا الإعداد يرهقنى، ويصيبنى بالإحباط، بعدما أعجز عن نقله إلى الصفحات، تستغرقنى أحيانا روايات، فى الإعداد فقط، ثم لا أجد لها سطورا بعد ذلك، أحيانا أبدأ رواية، بالكتابة كما قلت، فصل أو فصلين، لكن سرعان ما تختفى الأحداث، كأنها دخان، أو غاز متطاير، أو أمطار هطلت على أرض صخرية، فلا تنبت أى زرع بها، أحيانا أظل أطارد رواية، بالبحث فى الكتب، والتنقيب فى أسماء الشوارع، ومعايشة الشخصيات الحقيقية، وأعود محملا بمخزون جيد يكفى لكتابة عمل كبير، لكن ما أن أبدأ، وأجلس، وأمد يدى إلى اللاب توب، حتى تختفى العلاقات، تنزوى الحكايات، كأنها لعنة، هناك مشروعات كثيرة كتبتها قبل "شديد البرودة ليلا" روايتى الأولى، ولم تكتمل، ومشروعات اكتملت بعد "شديد" وقبل "الموت يشربها سادة" روايتى الثانية، لكنها لم تكن مناسبة للنشر، وبعضها كان مناسب للنشر، لكن الناشرين رفضوا نشرها، اعتبروها مروقا أدبيا، كفرا روائيا، أشياء من هذا القبيل، أحيانا تبدأ رواية، بخبر أقرأه فى الجرنان، أو على جدران بيت، أو حكاية فى درس بأحد المساجد، معظم الروايات تبدأ بخيط صغير، ربما يكر بكرة ثرية، غنية بالخيوط المماثلة، وربما إذا جذبته، لم تجد شيئا، هكذا تظل الرواية معى فى صراع آخر، كأنها سيدة جميلة، تعرف قدرها، وتختبر صبرى، وطاقة احتمالى، الكتابة علاقة حب، ليس بالضرورى أن يتخللها ممارسة جنسية، التى هى فى ظنى، نقطة النهاية باكتمال النص، وتحوله إلى كتاب، يكفينى من الكتابة الحب، لذلك ألاحق دائما العديد من الروايات، إنها علاقات حب متعددة، أنا فيها جميعا عاشق صب، تفضحه عيونه، لا ينتهى حبه، ولا يتأثر بعدم الوصول لمحبوبه، أو اكتمال التحامهما، حقا هذه هى قمة الذروة فى علاقة الحب، لكن الاستمتاع يكون دائما أثناء الحب نفسه، كيف أكتب عامة؟ أنه سؤال لم أفكر فيه، بهذه الكيفية، أننى أكتب، كما أحب، كما أنام، كما أدخل الحمام، كما أمارس عملى اليومى فى الجريدة، كما أذهب إلى لقاء حبيبة، كما أذهب إلى لقاء صديق، أكتب، كما أجلس، هل سألت نفسك كيف تجلس؟ كيف تتحرك، كيف تمشى، كيف تبتسم، كيف تفكر، كيف تمضغ الطعام، كيف تسمع، كيف تشم الروائح الطيبة، أو الكريهة، كيف تستمتع بموسيقى، كيف تشعر بالشوق، أكتب كما أفعل كل هذا، أبحث فى البداية عن الخيط، أختبره، لعله لا يكون قويا، فيقودنى إلى الفراغ، أجذبه عدة مرات، مثل صياد، يختبر خيط سنارته، قبل أن يلقيها إلى البحر، أكتب الفكرة عدة مرات، أقلبها فى الصفحات عدة مرات، على شتى جوانبها، أبحث فيها دائما عن جوانب الحكايات المحتملة، والقصص المثيرة للدهشة، والتيمات، أنها لعبة الانحناء على الأرض، لألتقاط التيمة المناسبة، أى تيمة ستتعرض للصهر هذه المرة، وتحتمل؟ خاصة أنها بالتأكيد تعرضت للصهر آلاف المرات، على أيدى روائيين سابقين، فلا جديد تحت الشمس كما يقال، هناك من سبقت رؤاه رؤياى، كما يقول محمود درويش، ومن سبقت خطاه خطاي، ماذا سأكتب، وأى جديد سأكتبه، بعد ما تم كتابته؟ لا أفكر بينما أكتب، فى أن أضيف جديدا، بل أفكر أن أكون مدهشا، أكثر مما كانوا، يظل هذا دائما أصعب ما أبحث عنه، وأرغب فى تحقيقه، أن أكون مدهشا، مبتكرا، مطوعا للتيمة، حتى لا تنصهر، بينما أعرضها للهيب الصهر، فأشكل منها تمثالى الخاص، الذى هو هناك بالتأكيد، كما يقول النحات الشهير، الذى لا أتذكر اسمه، تبدأ عملية الصهر، أبدأ الكتابة، وفى ذهنى قلق وشك فى هذا العالم، هل هو عالم حقيقى ومدهش، ولم يلجه أحدهم قبلى، أم أن أحدهم سبقنى إلى هذا العالم، وفض بكارته، حقا أنا حبيب عاشق، وأحب أن أكون الرجل الأول فى حياة حبيبتى، لهذا أشعر أحيانا أن حواسى تزداد حساسيتها، أثناء علاقة الحب الجديدة، التى أخطو فيها، أو أثناء الكتابة الجديدة، التى أكتبها، أبدأ بتخصيص ملف الشخصيات، أوراق متعددة لكل شخصية على حدة، أحيانا أحاول رسمها فعلا، لكننى أعجز عن ذلك لأننى لست رساما جيدا، لكن تنتهى المحاولات، إلى وجوه أقرب إلى التى أتمناها، الكلمات تكون بالنسبة لى دليل الشخصية، ومفاتيحها، حينما يحين الدور عليها، للتحدث، أو الإيماءة، أراجع صفحاتها، بملف الشخصيات، الذى احتفظ به دائما إلى جانب "اللاب توب" هذا الملف لا أكتبه على الكمبيوتر، لأننى أكون دائما بحاجة للنظر إليه، وتفحصه أكثر من مرة أثناء الكتابة على "اللاب"، لذلك يكون هذا الملف مكتوبا دائما بخط يدى، كأننى أحتضن هذه الشخصيات بينما أكتب تفاصيلها، وما يميز كل منها، كأننى أستخرج لها بطاقات شخصية، من مكتبى الخاص، وليس من سجل مدنى حكومى، تمضى الكتابة، إذا رغبت السيدة الجميلة، فى أن تقدم لى قليلا من عطفها، تتوالد الفصول، إذا كانت الدهشة جاذبة، ومقنعة، لى على الأقل، على الرغم أن الريبة لا تفارقنى، البعض يميل إلى مطالعة أصدقائه، بما يكتبه من فصول أول بأول، لا أستطيع أتباع هذه الطريقة فى الكتابة، كى لا تعطل أحكام مسبقة، ما ستطرحه هذه الشخصيات ، وما ستمليه علي رأسى، وعلى الصفحات، من أفعال، وما ستقوله من أقوال، تبهرنى أنا شخصيا، أحيانا أشعر أننى لا أكتبها، بل هى تكتب نفسها فعلا، تقول ما تشاءه، وقتما تشاءه، أحيانا أتوقف عن الكتابة عدة أيام، تصل لأسابيع، وتمتد لشهر، أوشهرين، أشعر وقتها أن الشخصيات ترتاح منى، تأخذ منى أجازة، أو لعلى أغضبتها، فكتبت شيئا ليس من شيمها، وليس من طباعها، فتبدأ فى إبداء غضبها، وتبرمها، تبتعد عنى الكتابة، السيدة الجميلة، معلنة اعتراضها، واحتجاجها على تصرفى، تهجرنى، كأننى بالفعل أغضبتها، وحينما ترضى، أعود فجأة إلى اللاب، وأبدأ الكتابة من جديد، هذا الموقف تعرضت له كثيرا فى خنادق العذراوات، كتبت مشاهد لم ترق "لنادية" ونسبت عبارات لإبراهيم سالم، وللمؤرخ، لم يقولاها كلاهما، ظلت متوقفا بعدها فترات، وحينما عدت، اكتشفت أننى ما كان يجب أن أكتب هذا عن نادية، أو أجرى هذه العبارات على ألسنة المؤرخ، أو على لسان "إبراهيم" ، إبراهيم ما يقولش كدا، هكذا ببساطة، كانت الكتابة تستمر، أو تتوقف، تخاصمنى، ثم تصالحنى، هكذا كنت أكتب الرواية الأخيرة، لم يكن الطريق ممهدا تماما، توقفت إزاء معلومات مستعصية، بحث لم يكن سهلا، كانت زيارة مصنع البيرة فى مصنع "بين السرايات" من واجبات استكمال العمل، كما اضطررت إلى زيارة مرفق الإسعاف، أثناء كتابة "الموت يشربها سادة"، كما احتجت إلى لقاء ضباط جيش شاركوا فى حرب العراق والكويت أثناء كتابتى رواية شديد البرودة ليلا، فى كل مرة كان البحث عن الرواية ليس سهلا، وكان البحث فقط، يعنى أننى فى الطريق إلى قلب السيدة الجميلة، الرواية، ذهبت إلى مصنع البيرة فى بين السرايات، وفى ذهنى تخيل، افتراض، وجود خنادق، وأنفاق، لم أكن قد قرأت فعلا عن المصنع، أو زرته من قبل، كان البحث عنه صعبا، حتى المؤرخون، لم يمتلكوا أى معلومات عنه، كانت المعلومات الشحيحة عنه أكبر سبب تجعلنى أفض يدى من هذه الرواية، وأتوقف عن المضى فى طريقها، إلا أن زيارة المصنع أنهت هذا اليأس، وجعلتنى أواصل الطريق، أكثر، لأننى هناك اكتشفت أن المصنع به أنفاق، أو خنادق، تم استخدامها فى الأغراض الصناعية، والعسكرية زمن الإنجليز، كان هذا الاكتشاف، بمثابة هدية من العالم، الذى يختبر إرادتى للوصول إلى هدفى، بإضافة المزيد من المعوقات، والصعوبات فى طريقى غير الممهد، فإذا تسلقتها، وصبرت على عناءها، فتح لى الطريق، فى النهاية، إلى شاطئ البحر، وكان هذا ما حدث، بمجرد انتهاء زيارتى للمصنع، عدت متحمسا أكثر من ذى قبل، ذهبت إلى المصنع وفى داخلى خيال، وعدت بعدما تأكدت من انطباق خيالى على الواقع، خيالى قادنى إلى سر المصنع، خيالى قادنى إلى أن هناك نفق ما، تكمن فيه روايتى، السيدة الجميلة التى أبحث عنها، فذهبت، وكلى أمل فى العثور على السيدة، فوجدت النفق بالفعل، فعدت مواصلا الكتابة، توقفت قليلا نتيجة تدعيم هذه الزيارة، بزيارة أخرى إلى جهاز التنسيق الحضارى، الذى أمدنى بالكثير من المعلومات عن المصنع، وأنفاقه، وغيرها، ثم عدت، وقد اتسعت الرؤية، وضاقت العبارة، بدا المشهد واضحا تماما، كمن كان يكتب عن حائط لا يراه، فما أن أبتعد عنه قليلا، حتى استطاع أن يراه كاملا، هكذا واصلت الطريق، فى رعاية السيدة الجميلة، الرواية، كانت الشخصيات تفتح لى مكنونها يوما بعد يوم، أحيانا كنت أتوقف، لأقارن تصرفاتها فى مواقف مماثلة، بالرواية، وأعود أواصل الكتابة، ثم أتوقف مرة أخرى، كأنه سباق، لا يشترط أن تنهيه فى زمن معين، لكن يشترط فقط أن تواصله، هكذا أكتب، أو هكذا كتبت تحديدا "خنادق العذراوات".

ما الذى تريد أن تقوله فى هذه الرواية؟
فى اللحظة التى يجلس فيها أى كاتب ليكتب، سيقرر إن كان سيصبح كاتبا جيدا، أم رديئا، هكذا قال ماريو بارغاس يوسا، ونقلها عنه ماركيز، وفى هذه الرواية قررت ألا أكون كاتبا رديئا، قررت أن أكون كاتبا جيدا، ولا أظن أننى أقبلت أبدا على أى مشروع، إلا كانت هذه الرغبة دافعى الأول، فى هذه الرواية كنت أنقب دائما فى التاريخ، وأحاول محاكمته، فهو المسؤول عن حاضرنا، فى هذه الرواية كنت أرغب فى محاكمة المقولات الكبرى، منها مثلا..أننا لا نقرأ تاريخنا جيدا، وأننا إن قرأنا هذا التاريخ، سنجد فيه كل الحلول لمستقبلنا، ذهبت إلى أن هذه المقولة من أكثر المقولات كذبا، وافتراءا على أجيال، أتقنت القراءة، وأجادتها، واجتهدت، وقرأت، لكنها لم تجد الحقيقة فى النهاية فيما تقرأه، لأن آخرون ضللوا، وتعمدوا إخفاءها، كنت أشعر بالغضب، لأن هناك من أخفوا الأشياء، تجاهلونا، تجاهلوا آلاف الأجيال التى ستعقبهم، وستحاكمهم على إخفاء الحقيقة، إخفاء الأحداث، تخيل أننى ظللت أبحث عن شخصية تاريخية، تسمى "على باشا اللالا"، هذا الرجل، يحتفظ شارع كبير باسمه، فى منطقة عين شمس، لكن لا يوجد مجلد تاريخى يحوى تفاصيل حياته على وجه الدقة، كل ما استطعت التوصل إليه، أن الرجل كان مساعدا للخديو عباس حلمى الأول، وكان مبعوثه إلى الجزيرة العربية لشراء الخيول، فقط، هل من أجل هذا أطلق اسمه على هذا الشارع، ثم حافظ الزمن على اسمه، على الرغم من تغير العهود، والحكام، والوجوه، والخلق، لماذا لم يحافظوا على حاضرهم، ويدونوه لنا، كى نقرأه، ونتعلم ، ونعرف الحقيقة كاملة، لماذا مات زكريا محيى الدين، وفى جعبته أسرار دولة عبد الناصر، لماذا لم يدون مذكراته، لماذا لم يبح، مثلما باح سعد الدين الشاذلى مثلا بأسرار حرب أكتوبر، هل تعرف مثلا أن الفريق الجمسى، جاء مرة إلى ندوة فى مركز "رامتان" متحف طه حسين، بشارع الهرم، كان الكل على موعد معه، كنت أحد حضور هذه الندوة، وكنا جميعا فى انتظار أن يتحدث الرجل، ويبوح بأسراره، وقصة كثيرة فى جعبته، من بينها مثلا تدخله فى أزمة ارتفاع الأسعار عام 1977، لكن الرجل قرر الرحيل فجأة، على الرغم من وصوله إلى بالفعل إلى مقر الندوة، فجأة تراجع، وقرر الاحتفاظ لنفسه، بأسراره، والحقيقة أنها ليست أسراره، إنما تاريخنا، وليس تاريخه، ينظرون إليه باعتباره تاريخهم، ومجدهم، لكنه تاريخ أمة، وأجيال، وأحفاد، من حقهم أن يطلعوا عليها، ويعرفوها، لماذا قاموا بتجويعنا هكذا لتاريخنا، لماذا زيفوا الحقائق، أخفوا ما حدث، ومنحونا تاريخا مصنوعا، متهالكا، هشا، يتساقط عند أول سؤال، ظننا أننا نعرف تاريخنا، ونحن لا نعرف شيئا، هذا ما أريد أن أقوله فى الرواية، أنهم كذبوا علينا، كذبوا كذبة كبيرة، أبدلونا الزيف، واحتفظوا لأنفسهم بما ليس من حقهم، وهم يظنون أن ما يحدث من حقهم وحدهم، ويخصهم وحدهم، لكن الحقيقة أنه يخصنا نحن، يهمنا نحن، ملكنا نحن، وهم المسؤولون عن واقعنا المشوه، الذى نحياه، هم المسؤولون عن سقوطنا فى هذا الحضيض، من لم يعرف تاريخه، سقط فى أول حفرة فى طريقه، فالتاريخ ملئ بالحفر، وتعرفنا على حفرة واحدة منها، كان كافيا لتمهيد الطريق، هكذا أجرموا فى حقنا، بإخفاء حفرهم، حفر التاريخ، وهم يظنون أنهم يمهدون الطريق، ظنوا أنهم يوارون فضائحهم، وهم فى الحقيقة يعدون لنا أشراكا، وفخاخا، كانت الحقيقة مرة عليهم، لدرجة أنهم عجزوا أن يضعوها فى الكتب، فأطلقوا أيدينا وحرروها، لنختلق عليهم آلاف القصص، منحونا حق الاختراع، وبراءة الإدعاء عليهم، وأختلاق ألاف الحكايات، ظنوا أننا سنرحمهم، بعدما تفننوا فى الإخفاء، والتخابث، ظنوا أننا سنكون أحفاد صاغرين، لن نبحث كثيرا عن الحقيقة، أو تستوقفنا أكاذيبهم "المنعكشة"، هل يتصورون أننا لن نجلس ذات يوم على نفس المنصة، التى جلسوا عليها، ولن نمسك أقلاما، ودواة، ولن نعيد كتابة تاريخهم، بطريقتنا المتمردة، بطريقتنا المشاكسة، أنهم لم يرحموا أنفسهم، أو يحفظوا ماء وجوههم، حينما قرروا إخفاء ما حدث، لم يرحموا أنفسهم، من أجيال لن تسامح، أو تتهاون فى حقها فى المعرفة، كل هذا هو ما أرغب أن أقوله فى هذه الرواية، ما أرغب أن أقوله، هو أننا سآمنا الكذب، والأكاذيب، والتضليل، أنا ابن جيل الثورة، التى لم تكن فقط على حاكم بعينه، إنما جيل، ثار على جيل أو جيلين، حاولا فرض إرادتهما على أبناء جيلى، فرفضنا أن نقول سمعا وطاعة، أو أن نقول عاش الملك ويعيش، أنا أبن جيل، سأم الكذب، والتضليل، والخداع المستمر، خد شهادتك وهتبقى كويس، اتوظف وهتبقى كويس، اتجوز وهتبقى كويس، خلف عيل وربك هيكرمك وهتبقى كويس، ربى عيالك، وكبرهم وهتبقى كويس، هترتاح لما تجوز ولادك، وهتكون أديت رسالتك، وفى النهاية نموت، نموت، ولم نحقق أقصى ما نتمناه، أننا نكون "كويسين".

ما أهمية هذه الرواية بالنسبة لك؟
هناك رواية تستمر مع كاتبها، حتى مع انتهاءها، تكون هى مشروعه الحقيقى، صوته الحقيقى، كلمته الحقيقية، فيها كل روحه، معظم المبدعين، والكتاب، يوزعون من روحهم قطعا، على أعمالهم، لكن تظل دائما هناك بعض هذه الأعمال، تكون كل روحهم، تكون واسطة العقد بالنسبة لهم، لم أكتبنى من قبل سوى فى بعض قصصى القصيرة، التى لم تقرأها، كتبت بعضا منى فى "شديد البرودة ليلا"، كما كتبت بعضا منى فى "الموت يشربها سادة" وأظن أننى سأكتب بعضا منى فى "بيوت الدانتيل" التى تدور أحداثها فى "السودان، ولكن "خنادق العذراوات" تحوينى، تحوى روحى، أظنها روحى كلها، لأننى كتبت نفسى فيها للمرة الأولى، حيرتى وترددى، ضياعى فى سنوات دراستى الأولى، بصرف النظر أننى لم أعمل "ديلر" فى الجامعة، إلا أن روح "مراد" الهشة، المهمشة، كانت هى روحى، سنوات طويلة كنت أعالجها بالكتابة، لكننى لم أكتبنى، كما كتبتنى فى هذه الرواية، استمد مراد من روحى كثيرا، على الرغم أننى بدأت أصفه فى الملف الذى يجاور "اللاب توب" أوصاف مغايرة لأوصافى، كنت أتخيله بدينا، أو نحيفا جدا، نظرا لفقره الشديد، وأحيانا كنت أتمنى أن يكون مستقيما كالسيف، يحرص على صلاة الفرض بفرضه، لكننى فوجئت أنه يستمد منى الكثير، يسحب روحى، إلى سطوره، إلى الصفحات التى يواجه فيها "نادية" وإبراهيم سالم، ورمضان، ومسعد، ووفاء، كنت أشعر أحيانا أننى أنا من أواجههم، بدلا منه، أشفق عليه، فيتوارى هو، بينما أتقدم أنا، لا أستطيع أن أصف أهمية هذه الرواية بكلمات منمقة، فأقول مثلا أنها عتبتى إلى طريق جديد فى الكتابة الروائية، لم يخطر هذا ببالى فعلا، كل ما كنت أفكر فيه، أن جزء من روحى معلقا بها، فإذا روحى كلها هناك، لا تمثل "خنادق العذراوات" نمطا وفكرة جديدة، أخطو إليها، فى روايتى الثالثة، كما أنها لا تمثل مجرد رواية، أو عتبة روائية، إنها كتابى الذى أعلق عليه أمالى، لا أعرف كيف أحبها هكذا ، لكننى أحبها، أحبها أكثر من أى حبيبة التقيتها يوم، وأحببتها، أحبها مثل عشيق، متيم، ينتظرها، ويستعذب عذابها، يهواها حقا بلا أمل، يسير مسافات، ويقطع صحارى، من أجل نظرة من عينيها، لا تمثل "خنادق العذراوات" مجرد شئ، بل إنها كل شئ، رحلة حج إلى نفسى، مغامرة روائية، لم أظنها تبدأ هكذا، لكنها بدأت، ولم أظنها تنتهى، لكنها فجأة انتهت، هناك روايات، لا تنتهى، بمجرد أن يضع مؤلفها الخطوط الأخيرة فيها، تستمر معه، تعيش، ربما أكثر من عمره، يموت، ولا تموت، يعيش أبطالها معه كل أوقاته، يستمرون فى أيامه ولياليه التى لم يتصور أن يلتقيهم فيها، أظن أن "خنادق العذراوات" تنتمى لهذا النوع من الكتب، التى تبدأ بإحساس، تصدقه فى البداية، يحركك، تشعر بتعبه، لكنك تستمر، حتى تصل.

أى تأثير تريده لهذا العمل على القارئ؟
أشعر أن هناك لبس ما فى هذا السؤال، أو أنه كان يجب أن يكون هكذا، لمن تكتب؟ هكذا بكل بساطة كان يجب أن تكون صياغة السؤال، لمن أكتب، هل أكتب لمن كتب لهم نجيب محفوظ، وأين هم، هل أكتب لمن يكتب لهم كبار الكتاب المعاصرين، الذين التقيت بعضهم، هل أكتب لمن كتب لهم إبراهيم أصلان وخيرى شلبى، إذا عرفت لمن أكتب، أكون على مقربة من توقع أى تأثير أريده من هذا العمل على القارئ، إذا عرفت القارئ أولا، سأعرف أى التأثير الذى أرغب فى تحقيقه عنده، فى الحقيقة أحيانا كنت أشعر أننى أريد أن أكتب من أجل نادية نفسها، أو من هم مثلها، وأننى أتوقع أن تصدق حقا أننى أكتب من أجلها، لم يأت بخاطرى أننى أكتب من أجل أدباء مثلى، شباب فى عمرى، صحفيين زملائى، لم يخطر ببالى أننى أكتب لهؤلاء، كما لم أشعر أبدا أننى أكتب من أجل المؤرخين، أو من أجل المثقفين، أو من أجل قراء محتملون، صابرون على معنى كتابى، أشعر أحيانا أننى أكتب لقارئ ليس موجودا، قارئ غائب، أو مغيب، لكننى للصدفة التقيت هذا القارئ كثيرا فى الشارع، فى القهوة، ألتقيت قراء، يقرأون، ولا يتذكرون أسماء الكتاب، لكن الروايات تعجبهم، ويتحدثون عنها بمجرد معرفتهم أننى كاتب، من أجل هؤلاء أكتب، لأنهم أجدر على فهمى، حتى المناقشة معهم، تثرينى، تنير لى مناطق أدبية، لم أتخيلها، أحيانا أشعر أننى أكتب من أجل الواقفون طويلا فى طوابير الانتخابات التى ظهرت بعد الثورة، من أجلهم أكتب، وأنا واثق أنهم سيقرأون، وسيفهمون، لا أطمع فى كلمات إعجاب، ولكننى أشعر أحيانا أن بمقدورهم تبين كم الأكاذيب التى تحويها المقولات الكبرى، وخواء مجلدات التاريخ، على وزنها الضخم، كنت فى البداية أدفع بروايتى الأولى لأبى كى يقرأها، كنت أشعر أحيانا أننى أكتب من أجله، لكنه لم يكن يقرأ، ولم يتحمس، كانت تستوقفه أحيانا مشاهد جنسية، تجعله لا يستكمل القراءة، لكننى فوجئت به فى حفل توقيع روايتى الثانية، الموت يشربها سادة، وقتها لم يكن هناك إقبال كبير على شراء الرواية، فقام أبى بشراء خمس نسخ من الرواية، نسخة له، ونسخة لشقيقته، ونسخة لشقيقى، ولشقيقتى، والخامسة كانت لصديقه، هذا كان جمهورى المحتمل، بعضهم قرأ، وتأثر بقصة رجل الإسعاف، بعضهم كان يقول فى بساطة :رواية حلوة، ومعبرة، اكتب، اكتب، استمر، أحيانا كنت أخذ هذه الكلمات، وأتمنى أن أسمعها من عشرة، أو من عشرين شخص، لا أتمنى الانتشار، بقدر ما أتمنى أن يصبح القارئ المحتمل، حقيقى، قارئ حقيقى، موجود، يقرأ، أظن أن أكبر عقبة تعترض الكاتب، هى ألا يجد قارئه، لكن البحث عن الحقيقة دائما يفرز قراء حقيقيين، لأن الحقيقة مبتغى الجميع، كل ما أتمناه أن يجد القارئ فى "خنادق العذراوات" فرصة لإعادة التفكير فيما يجرى حولنا، فى أسباب الورطة، التى يعيشها حاضرنا، أنها كذبة التاريخ

Comments

Popular Posts