لنا عبد الرحمن تكتب عن خنادق العذراوات في الحياة اللندنية يوم الأحد 2 فبراير وجدي الكومي منفصماً بين باطن وظاهر




البطل السارد هو مراد، أستاذ تاريخ في جامعة القاهرة، الذي يتلقى رسائل من شخصية غامضة تُدعى مروان أبو الحبال. إنها رسائل «تهنئة» تظهر في مناسبات مختلفة لتكشف عن معرفة صاحبها بكل تحولات حياته. وانطلاقاً من هذا الحدث، ينزلق السرد في متاهة الحياة اليومية لأستاذ التاريخ، بين نقمته على ما جاء في كتب التاريخ، وصراعه الداخلي في انشطار حياته بين ماض وحاضر... بين مراد في ماضيه: طالب جامعي فقير، تدفعه أحداث حياته إلى بيع الحشيش في الجامعة، وبين واقعه كأستاذ جامعي يُدرّس التاريخ، ويعيش مع زوجته وأطفاله في أحد الأحياء الراقية في الزمالك.
تبدأ الأحداث بعد قيام ثورة يناير 2011، تحديداً في وقت الانتخابات الرئاسية والتنافس وشيوع أسماء المرشحين الجدد للرئاسة. بيد أن المحور الأساسي للسرد يظهر بعد نصف الرواية، بالعودة إلى سنوات التسعينات وحكاية مصنع «البيرة» الذي يحمل جزءاً من تاريخ مصر حيث زمن الخصخصة، والبدايات الفعلية للانهيار. يُشكل مصنع الجعة الذي شُيّد في منطقة بين السرايات في أواخر القرن الثامن عشر، الجزء الباطني في المعمار الروائي لأنه يحمل مفتاح العنوان، في تحوله إلى مكان تُعقد فيه صفقات سرية لبيع العذراوات، فتيات شابات يتم بيعهن بإرادتهن وفق العرض والطلب. هكذا، تنزلق الرواية نحو عالم شائك من القوّادين، وتجار المخدرات، والأجساد، بل وتجار الوطن أيضاً، وكأن ثمة مدينتين إحداهما في الأعلى حيث الحياة الجامعية في النهار، وأخرى في الأسفل. لكنّ عالم المصنع هو الذي يتحكم بمصائر الأشخاص الذين يتحركون في ضوء النهار. ومن خلال شخصية إبراهيم نكتشف كيف تتم «الخصخصة» عبر النهب والقتل.

وإضافة إلى ثنائية الماضي والحاضر في عالم الراوي، والمدينة الموجودة على السطح، والأخرى المشيدة في دهاليز مصنع الجعة تظهر امرأتان في عالم البطل مراد هما: وفاء زميلته في الدراسة – نفرتيتي - كما يسميها أو «ابنة الأغنياء» التي تعيش في عالم زجاجي مصقول، ونادية التي تحترف العلاقات الغامضة مع تجار الموبيليا في مدينة «السادس من أكتوبر» مكان سكن مراد في بداية حياته وسط حي شعبي في مدينة جديدة، وبين هاتين المرأتين ينحصر عالم مراد، ويصير له وجهان، هو نفسه لا يعرف أيهما أكثر حقيقية.
لذا، تبدو السخرية من قوانين المجتمع ومعاييره، وهي تحضر في النص من أوجه عدة أبرزها حياة البطل التي تشبه رقعة شطرنج، تمضي بين مكعبات بالأبيض والأسود. فتمثل نادية وإدمانه السجائر المخدرة معها، وعمله في ورشة الموبيليا لتأمين معيشته، الجزء الأسود من حياته، بينما الجامعة وزميلته وفاء وطموحه بأن يكون أستاذاً جامعياً، الجزء المشع. لكنّ التناقض بين هذين العالمين يظهر من خلال تساؤلاته عن الشخصيات الأخرى في عالمه، فالدكتور رمضان رئيس قسم التاريخ الذي يتحرش بالتلميذات ويخلط الحقائق التاريخية ويسخر من أشد اللحظات ازدهاراً في التاريخ، ينافس البطل على حبيبته «وفاء»، ومن وجهة نظر مراد فإن عائلتها لن ترحب «بصعلوك» للزواج بابنتها، فيما ترضى برمضان لأنه أستاذ جامعي ويملك راتباً حكومياً كبيراً، وهاتفاً محمولاً، بينما البطل كما يرى نفسه «طماع خائب، أقضي شهراً أتعلم ممارسة الجنس مع نادية وتدخين الحشيش، وأفكر في وفاء وأغار عليها لمجرد أن رمضان بدأ يحاصرها».
ينتقل السرد في بعض الفقرات إلى نادية، عبر أقواس بهدف تنصيص كلامها، لكنّ نادية تروي التاريخ من وجهة نظرها، إضافة إلى حكايات أخرى تسردها على مسامع مراد طالب التاريخ. حكايات لن يقرأها في الكتب، ولن يكتبها المؤرخون. فتحكي له نادية عن تجارة المخدرات، ودورها في دعم الاقتصاد، وتحكي عن «انتفاضة الحرامية» التي قامت أيام السادات عام 1977، تكشف ما تحفظه ذاكرتها، لنقرأ: «لما الناس خرجت في الشوارع، وبدأوا يكسروا ويسرقوا المحلات ويضربوا البوليس، خرج الريس وقال دي انتفاضة الحرامية، اللي حصل إن نزول الأسعار مش هو اللي هدا الجو، ولا انتشار الدبابات وعساكر الجيش، بالعكس، وفرة الحشيش، هي اللي لمت الليلة. أنت فاكر تجار الحشيش دول قليلين؟» (ص 105). ثم تحكي له أن انتفاضة عساكر الأمن المركزي في 1986 كان هدفها القضاء على وزير الداخلية أحمد رشدي، لأنه حاول القضاء على تجار المخدرات. هكذا، يعتبر مراد أن نادية هي بوابته على التاريخ الحقيقي للمدينة: «تبوح نادية بما تسميه القصص الأصلية التي لم أدرسها في الكلية لمنهج التاريخ، التاريخ الذي لا يكتبه المؤرخون، التاريخ الحقيقي الذي يتعالى عليه كتبة السلاطين ويزورونه إلى ما يرغبون فيه» (ص 107).
يبدو بعض الأبطال ضحايا كما هو الحال مع نادية التي مات أبوها في الخليج وتركها لأم جربت أن تبيعها في السوق، فيما يبدو بعضهم الآخر أنه بلا جذور، كما نجد في تشكيل شخصية مراد، بحيث لا يحضر وجه عائلي أو اجتماعي لمراد، من أين أتى؟ ما هي خلفيته الأسرية؟ كل ما يذكره مراد عن نفسه: «أنا مجهول الأصل والفصل، منذ وفاة أمي قبل ظهور نتيجة الثانوية العامة بقليل، واضطراري للعمل في ورشة التنجيد لتدبير نفقات الجامعة» (ص 86). فيتجلّى مراد كرمز أو كنموذج أكثر مما هو بطل استثنائي له ملامح جسدية أو نفسية محددة، أي أن حكاية مراد من الممكن أن تحدث وتتكرر مع أي شخص آخر، يعزز هذه الرؤية طبيعة علاقته مع الدكتور رمضان، إذ يمثل الأخير المرجعية الوحيدة لمراد، رمضان رئيس قسم التاريخ الذي يُسرب له أسئلة الامتحانات في مقابل صمته على مشاهدته في جلسة تعاطي الحشيش، يجد في مراد امتداداً لشخصيته، ويساعده في الخروج من أزماته حين يتورط في تجارة المخدرات في الجامعة، بل إن مراد نفسه يصف علاقته برمضان بكلمة «كأنه أبي». يمكن القول أيضاً إن شخصية مروان أبو الحبال التي تظهر في بداية الرواية وفي نهايتها، تمثل امتداداً لشخصية مراد، فهو أيضاً طالب جامعي، وعلى صلة مع نادية، ويساعدها في ترويج المخدرات داخل الجامعة. هذا يعني أن الحلقة لن تنتهي.

Comments