قراءة فى رواية إيقاع للناقد والكاتب الصحفي إيهاب الملاح

لا يملك من يتابع المشروع الروائي للكاتب الشاب والروائي المجتهد الدؤوب وجدي الكومي، إلا أن يبدي إعجابه بهذا الإصرار الواعي والمثابرة الفنية والتطور الملحوظ في مجمل كتابته منذ عمله الروائي الأول «شديد البرودة ليلا»، وحتى عمله الروائي الأخير (الرابع) «إيقاع» الصادرة عن دار الشروق، يناير 2015.
ينسج وجدي الكومي خيوط روايته «إيقاع» بيدي صناع ماهر، يحمل هما مؤرقا وسؤالا ملحا عن ما طرأ على المجتمع المصري من ظواهر وتحولات خلال فترة ملتهبة ومتوترة (وما زالت) في حياة المصريين، ويحفر بدأب وتأن تحت قشرة الظواهر التي تبدو متناقضة ومتصارعة للإمساك بجذور الأزمة وتشريح الأسباب والدوافع التي أدت إلى تفاقم الأزمات الحياتية والمجتمعية في مصر خلال السنوات الخمس الأخيرة، يشتبك وجدي مع قضايا وموضوعات شائكة وملتبسة؛ مثل العلاقة بين المسلمين والمسيحيين وتفاقم العنف الطائفي وازدياد التعصب الديني وتردي الأوضاع المعيشية لعموم المصريين (الغرق في بحار الجهل والتخلف والفقر والمرض)، مع نقد جريء وفاضح لممارسات الأذرع الأمنية للسلطة الباطشة، التي تغيرت وجوهها بقيام ثورتين لم يفصل بينهما سوى عامين فقط، ولم تتغير عقيدتها وقناعتها إزاء محكوميها.
وعبر الحفر والبحث عن هوية المكان، والاشتغال على تاريخ منطقة بين السرايات (إحدى الفضاءات المكانية الأثيرة لوجدي) يتتبع مصائر شخوصه المتعددة، يرصد ظواهر أفرزها المجتمع الذي يئن تحت وطأة الانهيار الشامل في السياسة والاقتصاد جراء الفساد المتراكم والمتغلغل منذ عصر مبارك وحتى ما بعد ثورة 30 يونيو، فنجد وجدي منحازا (فنيا) لمطربي المهرجانات الشعبية بكل ما تستدعيه هذه المهرجانات من صخب وضجيج، لكنه يتجاوز هذا الرصد السطحي إلى التوغل في هذا العالم والكشف عن تفاصيله ومكوناته، وطارحا في الآن ذاته تفسيرا روائيا متعاطفا مع هذه الشريحة من المصريين، الذين ضاق بهم الحال وانسدت أمامهم السبل فقرروا أن يثوروا بطريقتهم ويتمردوا على أوضاعهم بخلق كلماتهم الخادشة الخشنة، وتوليف ألحان لها بإيقاعاتها الصاخبة المدوية وكأنهم في طقس تطهري أشبه بالزار في عنفه وحركاته الطائشة والباطشة معا.
يبدو وجدي مؤرقا وبشدة تجاه المسكوت عنه خلال السنوات الأخيرة، عقب ثورتي 25 يناير و30 يونيو، خاصة مع ما أفرزته من استشراء العنف تجاه الأقباط وازياد وتيرته بصورة جنونية، ومراجعة إرث قديم وممتد من التمييز والاضطهاد عانوه طويلا، يشتبك وجدي مع هذه القضية بجرأة وجسارة، وتتضح مهاراته السردية وتصوير المشاهد بما حدا بالكثيرين ممن قرأوا الرواية إلى التحمس لتحويلها إلى عمل درامي أو سينمائي.
يوظف وجدي تقنية تعدد الأصوات في الكشف عن خلفية عريضة من مظاهر هذا الانهيار، ولا يملك قارئ الرواية إلا أن يحبس أنفاسه من براعة الروائي في الإمساك بخيوط روايته محافظا على "إيقاعها" السردي، وعناصر التشويق ومغريات الحكي التي تتكشف مفاجآتها وتنكشف أسرارها على مدار صفحات الرواية التي تتجاوز الـ350 صفحة. ونجا وجدي من فخ الاستسهال والوقوع في حبائل الرصد والتصوير الفوتوغرافي للوقائع والأماكن، فمشاهد التخييل الروائي المتغلغة في صلب العمل وشرايينه باتت أكثر واقعية وصدقا وحميمية من مرجعها الإطاري الواقعي.
في ظني تمثل هذه الرواية نقلة فنية كبرى لوجدي الكومي، ورسخت مسعاه العنيد الصلب في البحث عن مسالك جديدة للكتابة الواقعية متحديا بوعي وجسارة كل الدعوات المنادية بسقوط الواقعية وهجرها، والتخلي عن الانشغال بالواقع وهمومه وقضاياه بالانسحاب إلى الكتابة الفردية الذاتية، المنعزلة، المتعالية، مع أنه وكما يقول بعض كتاب الرواية البارزين "ما أصعب التعامل الأدبي مع الواقع المتعدد الثري، المسطح والعميق، الفاسد والخير.. ولعل المهم في الأدب هو كيف تحكي هذا الواقع دون أن تحاكيه"، أن تؤكد القاعدة الذهبية التي تقول إن "الفن موازاة رمزية للواقع" وليس محاكاة له.. أظن أن وجدي فعل هذا باقتدار.

Comments