مجتزأ من الرواية تم نشره في صحيفة الجريدة الكويتية

1
إنها تتلصص على “اللاب توب”... اكتشفت ذلك بعدما عدت ذات يوم من الخارج ووجدت ملفات “وورد” مفتوحة في recent Items. ظنّت أن بمقدورها أن تفتح اللاب توب وتتلصص وتفعل ما تشاء، ولن أكتشف الأمر. واجهتها فأنكرت. قلت لها فجر أمس، قبل أن يخلد كلانا للنوم، إنّ بمقدوري أن أفتح لها جهاز الكمبيوتر وأساعدها في البحث عمّا تريد، لكنها، فيما يبدو، لا تريد أن تكشف لي ما تريده. شيء غريب! قلت لها: “أنا واثق من أنك دخلت إلى جهاز الكمبيوتر”. واصلت الإنكار، وقالت: “تهيّؤات، تهيؤاتك لم يعد لها حدّ، حاول أن تستشير طبيبًا”. أعطيتها ظهري وحاولت أن أنام، لكنّ الغضب ظلّ يتأجج، خاصةً بعدما ارتفع أذان الفجر، وأدركت أنني سأتأخر عن المحاضرة، وسأواجه تقريع ولوم رئيس القسم كالعادة. أفّ، شيء مقرف ومقزز!...

2

اليوم كنت عصبيًّا...
لم أستطع أن أجد مكانًا لركن سيارتي بسهولة عندما وصلت باحة الجامعة. حاولت إفساح مكان لسيارتي “الرينو” الطويلة بصعوبة. كان المكان مزدحمًا بسيارات أعضاء هيئة التدريس والطلبة الأثرياء. ظللت أحاول جاهدًا دفع بعض السيارات ومحاولة إخلاء مكان ما؛ وجدتها فرصة سانحة لإفراغ غضبي وتوتري. ضغطت على زرّ إنزال الزجاج الكهربائي، و”شخطتُ” في السيارات المتوقفة حولي كأنها ستفسح لي مكانًا على أثر غضبي: لن أظل طوال اليوم في انتظارك. مكان سيارتي مسؤوليتك، حتى يوم إجازتي.
أثارت صيحتي انتباه بعض الطلبة القريبين. ظلوا يحملقون فيّ حائرين. اعتادوا غرابة أطواري. تناولت حقيبتي وأبطلت محرّك السيارة وجعلتها مستوية وحررتها من مكابحها. ترجّلت وتركتها متوقفة وسط باحة الجامعة، مثل السيارات المسروقة التي يتركها اللصوص في مناطق متطرفة.

3

تتعمّد دائمًا الإتيان بحركات مريبة أثناء المحاضرة. في البداية لم أكن أظنها أكثر من حركات عصبية، لاإرادية؛ كنت أظنها متاعب عقلية، أو إشارات لكائن مجهول في خيالها؛ كانت إشارات متوحشة. كنت أفقد تركيزي وأشرد نتيجة نظراتها؛ عضّها المستمر على شفتيها الرقيقتين؛ توتر نظرات عينيها وكثرة خفقان أجفانها. ضبطت نفسي سارحًا، وأقول كلمات لا علاقة لها بالمحاضرة: أخلط العصور ببعضها بعضًا؛ أنسب غزوات لملوك مسالمين، وهزائم لأباطرة منتصرين. هراء! كنت أغمغم هراءً. كل مرة كنت أسرح خلف نظراتها، وألمحها تختم إيماءتها وهزات رأسها بضحكات انتصار، كأنها شامتة لنجاحها في الإيقاع بي، بأشعة عينيها، كانت تسخر في داخلها من سقوطي المباغت. نظراتها، مثل عينيها، متوحشة. رموشها طويلة كأنها مقدمات نصال سيوف تتهيأ لأن تمتد باترةً من تطيل التحديق فيه. جسدها ملفوف فائر، وشعرها كان متوهجًا بنيَّ اللون.

4

كان يومًا مرهقًا.
ظللت طوال اليوم أحاول استرجاع نفسي.
كانت ترتدي بلوزة حابكة، لم أستطع التركيز على كلمة واحدة ممّا أقول. كان الحر ملهبًا للجبين. الشمس، منذ الصباح لم تترك مكانًا في الجامعة إلا وألهبته بأشعتها. في المحاضرة كان العرق يلتمع على جبينها ورقبتها، والشمس تعكس فتنتها. بدوت مرتبكًا أثناء شرح مؤامرة محمد علي للتخلص من مشايخ الأزهر والمماليك وغيرهم من القوى السياسية، للانفراد بالحكم، على الرغم من أن المشايخ هم من جلبوه إلى مقعد الوالي. ارتبكت. تداخلت عليَّ الخطوط. كانت ترمقني بنظرتها التي تصوبها عينان سوداوان. كانت نظراتها وإيماءاتها مستمرة؛ تنتقل من صدري إلى أصابعي الممسكة بالأقلام البلاستيكية التي أستخدمها في الكتابة على سطح “البورد” المعلق أمامهم. كان الحر له أثره الكبير في نشر السأم والضجر على ملامحهم. أكاد أسمعهم يقولون: البلد والعة وأنت بتتكلم عن محمد علي.

5

مثل نجم سينمائي انتشرت صورة المرشح الرئاسي “عمر سليمان”، نائب محمد حسني مبارك قبل سقوطه. كانت ملامحه تطلّ على الجميع في تحدٍّ من أغلفة المجلات الأسبوعية والصحف... المصور والأهرام العربي؛ حوار مع عادل حمودة في جريدة الفجر الأسبوعية؛ حوار مع خالد صلاح في صحيفة اليوم السابع اليومية على حلقتين. تأملت فرشة الجرائد الواقعة أسفل منزلي. عدت من الجامعة مرهقًا. “شيلة” “اللاب توب”، لحمايته من تلصّص زوجتي المستمر، أضافت إلى أعبائي عبئًا جديدًا، على الرغم من أنه يظل راقدًا طوال اليوم في حقيبة السيارة. ظللت واقفًا، أمام فرشة الجرائد، محتارًا أيّ الصحف أختار لأقرأ تصريحات الرجل. قررت أن أتجاهل الأمر برمته. صعدت إلى البيت. فوجئت بنبأ استبعاده، هو وخيرت الشاطر وأيمن نور وحسام خيرت وممدوح قطب وأشرف بارومة وحازم صلاح أبو إسماعيل وثلاثة آخرين لم أتذكر أسماءهم، من الترشح لرئاسة الجمهورية لأسباب قانونية تخصّ كلاًّ منهم: أبو اسماعيل تأكّد حصول والدته على الجنسية الأميركية؛ وسليمان ينقصه 31 توكيلاً من محافظة أسيوط، على الرغم من تباهي حملته بسرعة جمع 60 ألف توكيل في ساعات قليلة؛ وأيمن نور والشاطر نظرًا إلى أنّ كلاًّ منهما لم يحصل على حكم قضائي يدعم العفو عنهما ويسمح بترشيحهما للرئاسة.

6

كنت لم أزل أتذكرها.
مرقت زوجتي أمامي بعد العشاء، وحاولت أن تحدث صوتًا. كنت شاردًا. فتحت شاشة اللاب توب، وظللت أحدق فيها ساهمًا. ملامحها كانت تطغى على رأسي. حاولت القراءة في أحد الكتب. ضبطت نفسي أفكّر فيها، وأقرأ دون أن أعي ما تقوله السطور. لمحت زوجتي تتهيّأ للنوم: أطفأت الأنوار؛ أضاءت لمبة خافتة؛ تعين الأطفال على تحسس طريقهم، في حالة استيقاظ أحدهم، للتوجه إلى الحمام؛ سمعت أصوات قارورة عطرها بينما تنفث بضع رشّات، ثم لم ألبث أن شممتها، هذا العطر الذي شممته منها في ليلة الدخلة منذ عشر سنوات، كنّا وقتها معيدين في نفس القسم. كان بمقدورها الاستمرار، خاصةً بعدما تمّ تعيينها معي، لكني أقنعتها بعد الزواج بالاستقالة، خاصةً بعدما جاءتني منحة تركيا. وقتها كنّا لا نزال مخطوبين. قامت الدنيا ولم تقعد. لم ترضَ بالاستقالة بسهولة، لكنها استجابت. كنت أعرف كيف أقهرها. لم أهدّدها بفسخ الخطوبة. كنت أعرف أنّ تفوقها وحبها للكلية، خصوصًا بعدما صارت معيدة، أهم لديها مني. فقط بكيت، بكيت كي أقهرها. لم تستطع مقاومة دموعي. يومها تيقّنت أنّ
تضحيتها تستحق. سافرت إلى اسطنبول، واستقالت، وعدت، وتزوجنا، ورويدًا رويدًا ندمت على الاستقالة.

7

كانت هناك محاولات عديدة لكسر الجمود الذي أصاب تدريس التاريخ في أقسام الكليات المختلفة. تلقيت دعوة أستاذي ورئيس القسم، الدكتور رمضان، ذات مساء، لحضور اجتماع في الصباح التالي. كان بدينًا، قصير القامة، يشبه كرة من القش، خاصةً عندما يرتدي حلّته المفضلة، المكوَّنة من جاكيت كتّاني يبدو منفوشًا عند منطقة “كرشه” و”البابيون” العتيق الذي ورثه عن والده، وعندما يخلع الجاكيت، تأثرًا بعامل الحرارة أو استعدادًا لإلقاء محاضرة ما، يظهر قميصه “الكاروه” الغامق اللون وعليه حمّالات قديمة الطراز، كابيه. كان عتيقًا: كل ملابسه، طريقته في التدريس، طريقته في التدخين، يفضِّل سجائر رخيصة الثمن على الرغم من أن بمقدوره أن يدخِّن سيجارًا. لم أكن أعرف أماكن جيدة تبيع سيجارًا جيدًا، فقط “بابيك” بوسط البلد، لكني قررت أن أمر على الأسواق الحرة أثناء عودتي لأشتري سيجارًا وأجرّبه: إنه يعطي إحساسًا بالعظمة؛ هذا مؤكّد.

8

انحنى أستاذي نحوي وقال بملامح منهكة مرتبكة: مراد.. مندهتلكش عشان أتناقش معاك في الكلية والكلام الفارغ دا؟
انتبهت. حدقت في ملامحه أثناء انحنائه على وجهي كأنه يحذر أن تتطاير كلمات من حديثنا. كانت تفاصيل وجهه كبيرة وواضحة: أسفل حدقات عينيه شعيرات دموية حمراء محتقنة شديدة الوضوح، وإن لم ألمحها من قبل، لعلّي لم أركز فيها؛ بشرته كانت عجوز متهدّلة، نالتها الكرمشة وعوامل الزمان. ظل محدِّقًا فيّ بعينيه الكبيرتين الواسعتين كما لو كان يتفرّسني. فجأةً تحركت شفتاه قائلاً: “مراد.. أنت بتخون مراتك؟”.
تراجعت مندهشًا. هل عرف بنظرات الفتاة إلي في المحاضرة؟ لكنها لم ترقَ بعد للمعاكسة؛ هل اشتكت له الفتاة؟ هل التقته؟ هل يراقبني أثناء المحاضرة؟ لكنّ أمري، على ما أظن، ليس مفضوحًا لهذه الدرجة، هذا ما ظننته.

9

كنت غاضبًا، وبينما كنت أقود سيارتي عائدًا إلى البيت كنت أضرب “دراكسيون” السيارة في غضب، كما لو كنت أتمنّى مضاعفة سرعة السيارة بالخبطات المتلاحقة من قبضتيَّ الممسكتين بـ”الدراكسيون”. قدمي تعتصر دواسة الوقود، والطرقات الخالية ساعدتني على المراوغة. كنت أختار الشوارع التي أعرف مسبقًا أنها خالية، لكنني كنت واثقًا من أنّ نقطة بعينها سوف تستوقفني. لم أكن أعرف متى ستأتي هذه النقطة، ربما بعد شارع أو شارعين، كوبري أكتوبر أو الطريق الدائري. كانت أنفاسي المتلاحقة تتكثّف على زجاج السيارة. الشتاء باردٌ قارس، لكنني كنت مختنقًا: الدماء تفور داخلي، جبهتي تتصبّب عرقًا، جلد رقبتي يستثيرني ويشعرني بالحاجة لحكّه. فجأةً برزت في مواجهتي سيارة “تريللا” ضخمة أشبه بالفك المفترس. أطلقت إطارات سيارتي صريرًا مخيفًا، بينما أعتصر دواسة الوقود وأحتضن الدراكسيون إلى صدري كما لو كنت أحاول أن أجذبه من “التابلوه” كي أجبر السيارة على التوقف.

10

بدأت المشاجرة بدخولي الشقة هائجًا. كنت أسكن في الطابق الثالث من بناية قديمة بالزمالك؛ البناية مواجهة لمول تجاري يسمى “اليمامة سنتر”، أسفلها مكتبة تبيع جرائد ومجلات وكتبًا أجنبية وروايات بالعربية. كان يمكن ليوسف الواقف في المكتبة أن يسمع صوت شجارنا بسهولة، خاصةً أن المشاجرة بدأت عقب وصولي في التاسعة مساء. أفلتُّ بأعجوبة من الحادث الذي كاد يمزج لحمي بصاج السيارة. كلانا، أنا والسيارة، لم نصب بسوء. استطعت فرملتها في اللحظة نفسها التي أدار سائق التريللا مقود سيارته لينحرف بها بعيدًا عن مواجهة سيارتي. نجوت بأعجوبة، لأعود سالمًا إلى شقتي، لتشتعل المشاجرة التي قدتُ من أجلها غاضبًا، من منزل أستاذي ورئيسي في القسم، في المقطم، حتى الزمالك حيث أسكن. لم تكن زوابع غضبي قد هدأت؛ كنت أشعر بحنقٍ شديد. واجهني أستاذي بمكالمة زوجتي له. هاتفته لتفضحني. طلبت منه أن يخبرها إن كنت تعلّقت بإحدى زميلاتي في الكلية، أو إحدى الطالبات. قال لها بسلامة نية إنه لا يعرف شيئًا عمّا تتحدث. كان ما أغضبني هو أنني اعتبرت فعلتها فضيحة. لم أكن أحب أن يعرف مخلوق شيئًا عني، وبالذات رمضان.

Comments